جدة

تحتل جدة مكانة مميزة على الحافة الغربية لشبه الجزيرة العربية، حيث تلتقي جبال الحجاز الشاسعة بامتداد البحر الأحمر المتلألئ. وبصفتها الميناء الرئيسي لدخول أقدس مدينتين إسلاميتين - مكة المكرمة شرقًا والمدينة المنورة شمالًا - فإن تاريخها لا ينفصل عن إيقاعات الحج والتجارة الدولية وموجات الإمبراطورية. ومع ذلك، يختبئ تحت سطح إحدى أسرع المدن الكبرى نموًا في المملكة العربية السعودية نسيجٌ غنيٌّ من المساعي الإنسانية: منازل تجارية عريقة، وأسواق صاخبة، وناطحات سحاب طموحة، وشاطئ استُعيد في السنوات الأخيرة بفضل مشاريع تطوير واسعة النطاق على الواجهة البحرية.

من بداياتها الغامضة في أواخر العصور القديمة، تحول مصير جدة بشكل حاسم في عام 647 م، عندما عيّنها الخليفة الثالث، عثمان بن عفان، البوابة الغربية للحجاج المسلمين المتجهين إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج. يُعتقد أن اسم المدينة - "جدة" بالعربية - مشتق من تعبير يعني "الشاطئ" أو "الجدة"، على الرغم من أن أصلها الدقيق لا يزال غامضًا للمؤرخين. ومع ذلك، سرعان ما اجتذب ميناؤها العميق سفنًا تجارية محملة بالبخور وعرق اللؤلؤ وقواقع السلاحف، متجهة إلى أسواق البحر الأبيض المتوسط ​​والهند وما وراءها. بمرور الوقت، عززت جدة دورها كقلب تجاري للحجاز، وربطت شبكة التجارة في المحيط الهندي بالقوافل التي عبرت المناطق الداخلية العربية.

جدة اليوم هي ثاني أكبر مدينة في المملكة العربية السعودية، حيث بلغ عدد سكانها نحو 3.8 مليون نسمة عام 2022، مما يجعلها الأكبر مساحةً في الحجاز والتاسع في الشرق الأوسط. تمتد حدودها البلدية عبر سهل تهامة الساحلي على البحر الأحمر، وترتفع تدريجيًا نحو سفوح جبال الحجاز السفلى. ورغم أن مساحة المدينة تضعها بين أكبر مئة مدينة في العالم من حيث المساحة، إلا أن التطور العمراني غالبًا ما فاق وتيرة تطوير البنية التحتية، مما أدى إلى تشكيل فسيفساء من الأحياء تتراوح بين أزقة البلد القديمة المتشابكة، وشبكات الضواحي الأحدث المخطط لها.

شعار جدة "جدة غير" يُجسّد روحًا محليةً تُوازن بين الأعراف الاجتماعية المحافظة ونظرةٍ أكثر انفتاحًا على العالم، مقارنةً بمناطق المملكة الداخلية. تُسهم القوى العاملة الأجنبية في المدينة، والتي ينحدر معظمها من جنوب وجنوب شرق آسيا وشمال إفريقيا وبلاد الشام، إلى جانب جاليات شيعية صغيرة وأقليات أخرى، في نسيجها متعدد اللغات والأعراق. ومع ذلك، لا تزال الحياة الرسمية مُشكّلة بمبادئ الشريعة الإسلامية: إذ يُؤدّي أكثر من 1300 مسجد الصلوات اليومية، وتُقتصر التعبيرات العلنية لغير المسلمين على الأماكن الخاصة، حتى مع امتداد التسامح بهدوء إلى الشعائر الدينية التي لا تُخالف النظام العام.

يتميز مناخ جدة بمزيج من حرارة الصحراء والرطوبة البحرية. تُصنف جدة على أنها منطقة جافة (وفقًا لتصنيف كوبن BWh)، وتشهد شتاءً دافئًا باستمرار - نادرًا ما تنخفض درجات الحرارة الصغرى صباحًا عن 15 درجة مئوية، بينما تقترب درجات الحرارة بعد الظهر من 28 درجة مئوية - وصيفًا شديد الحرارة، حيث تتجاوز درجات الحرارة نهارًا 40 درجة مئوية في كثير من الأحيان. سُجلت أعلى درجة حرارة مسجلة - 52.0 درجة مئوية - في 22 يونيو 2010، مسجلةً بذلك ذروة المملكة العربية السعودية على المستوى الوطني؛ بينما سُجلت أدنى درجة حرارة، 9.8 درجة مئوية، في 10 فبراير 1993. هطول الأمطار شحيح وغير منتظم، ويقتصر في معظمه على عواصف رعدية قصيرة في شهري نوفمبر وديسمبر؛ وقد تسببت عاصفة واحدة في ديسمبر 2008 في هطول حوالي 80 ملم من الأمطار، مما أدى إلى فيضانات في الشوارع وإغراق شبكات الصرف الصحي. وتتخلل موسم الجفاف عواصف الغبار القادمة من المناطق الداخلية في شبه الجزيرة العربية أو من الصحراء الكبرى في أفريقيا، والتي تندمج في بعض الأحيان مع العواصف الرعدية لتغطي المدينة بضباب أصفر اللون.

يقع ميناء جدة الإسلامي، البوابة البحرية الرئيسية للمملكة، في قلب اقتصاد جدة. يحتل الميناء المرتبة السادسة والثلاثين عالميًا من حيث حجم الشحن، والثانية في الشرق الأوسط بعد ميناء جبل علي بدبي، وقد ناول أكثر من 4 ملايين حاوية نمطية مكافئة لعشرين قدمًا في الفترة 2017-2018، رابطًا المملكة العربية السعودية بأسواق من شرق آسيا إلى أوروبا. ويكمّل مطار الملك عبد العزيز الدولي هذا الميناء، إذ يهيمن على الضواحي الشمالية للمدينة. وتشمل محطاته الأربع محطة الحج الشهيرة ذات السقف الخيامي، المصممة لاستقبال ملايين الحجاج خلال موسم الحج، بالإضافة إلى مرافق مخصصة للمسافرين المحليين والدوليين وكبار الشخصيات. وإلى جانب الميناء والمطار، تضم المنطقة الصناعية في جدة، الرابعة من حيث الحجم على المستوى الوطني، مصانع بتروكيماوية ومصانع فولاذ وصناعات خفيفة.

ازدادت أهمية الطرق السريعة والسكك الحديدية يومًا بعد يوم. فالطريق السريع 40، الذي يبدأ من جدة، يمتد شرقًا عبر مكة المكرمة وصولًا إلى الرياض والدمام، بينما يربط قطار الحرمين السريع، الذي افتُتح عام 2018، جدة بهاتين المدينتين المقدستين عبر السكك الحديدية. ورغم أن مشروع مترو حضري مُخطط له قد واجه تأخيرات متكررة، إلا أن المخططين يتصورون شبكةً تخترق الشوارع المزدحمة وتوفر نقلًا سريعًا داخل المدينة نفسها.

لقد أكسبها موقع جدة، ملتقى طرق الحج والتجارة، تقاليد طهي فريدة لا مثيل لها في أي مكان آخر في المملكة العربية السعودية. تهيمن الأسماك والمأكولات البحرية، بفضل الشعاب المرجانية القريبة ومناطق الصيد في أعماق البحار. يُجسّد السليق، وهو طبق أرز حساء يُطهى في مرق، النكهة المحلية؛ وكذلك المبشور، حيث يُطهى الأرز في مرق مُتبّل. ومع ذلك، تعجّ المطاعم بالنكهات المستوردة: حساء الحريرة والفول من المغرب العربي، والمندي والمدفون من اليمن، وزلابية المانتو من آسيا الوسطى، والبرياني من جنوب آسيا، والبرك الذي يعود تاريخه إلى طرق التجارة العثمانية. ومن بين مطاعم الوجبات السريعة، تبرز سلسلة مطاعم البيك المحلية: تأسست في جدة عام ١٩٧٤، وتجذب أطباق الدجاج المشوي والمأكولات البحرية التي تُقدّمها الآن طوابير طويلة في مدن المملكة العربية السعودية وخارجها.

تعكس المتاحف، وإن كانت قليلة العدد، ماضي المدينة المتنوع. يعرض متحف جدة الإقليمي للآثار والإثنوغرافيا آثارًا تعود إلى ألفي عام؛ ويحافظ بيت نصيف على تقاليد عائلات التجار الحجازية؛ ويجمع متحف عبد الرؤوف خليل الخاص قطعًا أثرية من العثمانيين والأفارقة ومجتمعات الصيد المحلية. وقد أدرجت اليونسكو منطقة البلد، بمنازلها المبنية من الحجر المرجاني وشرفاتها الخشبية المنحوتة بدقة، على قائمة التراث العالمي عام ٢٠١٤؛ ومنذ ذلك الحين، موّلت المراسيم الملكية ترميم حوالي خمسين مبنى تاريخيًا، مما أعاد إحياء بيوت الوقف العريقة التي سكنها التجار وعائلاتهم.

تُعدّ شوارع المدينة الرئيسية بمثابة مقياس لنموها وطموحها. شارع الملك عبد الله، الذي يمتد على طول الواجهة البحرية غربًا حتى الحدود الشرقية للتوسع العمراني، تصطف على جانبيه مكاتب الشركات والأبراج التجارية؛ وسيستضيف قريبًا محطة قطار جدة المركزية، وهي جزء من شبكة السكك الحديدية عالية السرعة المستقبلية. كما يضم ثاني أطول سارية علم في العالم، وهي سارية رفيعة من الفولاذ يصل ارتفاعها إلى 170 مترًا، يرفرف منها العلم الوطني فوق المتنزهات الساحلية. شارع التحلية - المعروف رسميًا باسم طريق الأمير محمد بن عبد العزيز - يُهيمن على قطاعي الأزياء والتجزئة في جدة، حيث تزدحم أرصفته بالمتاجر والمقاهي الفاخرة. أما طريق المدينة المنورة، الذي يربط المطار بالمناطق الجنوبية، فلا يزال مزدحمًا باستمرار ولكنه حيوي للخدمات اللوجستية والتنقل.

ومع ذلك، تلوح في أفق جدة الطموحات بجلاء. يشهد برج البنك الأهلي التجاري الشاهق ومقر البنك الإسلامي للتنمية على المكانة المالية المرموقة للمدينة. أما برج جدة (برج المملكة سابقًا)، الذي أُلغي بناؤه ولكنه لا يزال شامخًا، والذي كان من المقرر أن يخترق السحاب على ارتفاع يزيد عن كيلومتر واحد، فيجسد سعي المملكة العربية السعودية نحو التميز العالمي؛ فقد توقف العمل فيه عام ٢٠١٨ عند ثلث ارتفاعه المخطط له تقريبًا، ثم استؤنف في سبتمبر ٢٠٢٣، ويهدف الآن إلى إكماله بحلول عام ٢٠٢٩. وفي الجوار، يُعلن برج طريق الملك على جدرانه الضخمة المزودة بمصابيح LED، بينما يُمثل برج الجوهرة طفرة في ناطحات السحاب السكنية.

شهدت جدة نموًا ملحوظًا في جذبها السياحي كوجهة سياحية خلال السنوات الأخيرة. أُعيد افتتاح كورنيش البحر الأحمر، الذي تم توسيعه وتجديده ليصبح واجهة جدة البحرية، عام ٢٠١٧، بشواطئه ومراسيه وحدائقه ومنشآته الفنية العامة. وقد فاز هذا المشروع، الذي تبلغ مساحته ثلاثين كيلومترًا مربعًا، بجائزة محلية للابتكار، ويوفر لسكان المدن ملاذًا ساحليًا، وملاعب للأطفال، ونوافير راقصة، وخدمة واي فاي مستمرة. وتقع خارج حدود المدينة مجمعات ساحلية مغلقة - محظورة على المطوعين، أو الشرطة الدينية - حيث تسود تقاليد اجتماعية أكثر انفتاحًا بين سكان جدة الأثرياء. وتحمي منتجعات فاخرة مثل النورس موفنبيك، وكريستال ريزورت، وشيراتون أبحر، الشعاب المرجانية البحرية، وتستضيف الزوار الباحثين عن الخصوصية في أحضان أشجار النخيل.

طوال تاريخها، ارتبطت هوية جدة بالحج. فعلى مدى أربعة عشر قرنًا، نقلت السفن والقوافل الحجاج من جميع القارات إلى مكة المكرمة، وكانت جدة محطة انطلاقهم الرئيسية. واليوم، حلّ السفر الجوي محلّ الرحلات البحرية، إلا أن المدينة لا تزال تحتفظ بدورها كبوتقة تنصهر فيها اللغات والمأكولات والعادات. ويؤكد حيّها القنصلي، الذي يضمّ مقرّات أكثر من ستين بعثة دبلوماسية - من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى إندونيسيا واليونان والصين - على أهميتها الدولية. وبصفتها المركز الإداري لمنظمة التعاون الإسلامي، تستضيف جدة قممًا لوزراء المالية ورؤساء الدول، مما يعزز مكانتها كمركزٍ للدول ذات الأغلبية المسلمة.

تقف جدة عند مفترق طرق بين الحفاظ على التراث والتقدم. يعكس التوتر بين مساكن البلد التي تعود إلى قرون مضت وناطحات السحاب الزجاجية في الخليج التجاري نقاشًا أوسع نطاقًا: كيفية التوفيق بين التراث الثقافي والمتطلبات العصرية للبنية التحتية والإسكان والترفيه. تسعى خطط شبكة السكك الحديدية الخفيفة وتوسعة مباني المطارات إلى إدارة النمو؛ بينما تهدف مبادرات تنويع الاقتصاد في مجالات العلوم والهندسة والابتكار إلى تقليل الاعتماد على عائدات النفط والموانئ. وعلى الرغم من الفيضانات الدورية - كتلك التي اجتاحت شارع الملك عبد الله عام ٢٠١١ - والتهديد الدائم بارتفاع مستوى سطح البحر، يتصور مخططو المدن مدينة ساحلية تبقى عملية ومضيافة.

في العقد القادم، ومع اكتمال بناء أطول برج في جدة على الإطلاق ومدّ خطوط السكك الحديدية إلى جميع أنحاء المملكة، سيستمر طابعها في التطور. ومع ذلك، يبقى دورها الثابت، سواءً في قلب البلد أو تحت رذاذ نافورة الملك فهد - أعلى نافورة في العالم - هو دورها كعتبة وصل: بين الصحراء والبحر، الماضي والمستقبل، العادي والمقدس. بالنسبة للحجاج والتجار والمقيمين على حد سواء، تظل جدة نقطة التقاء الرحلات، وتشابك سبل العيش، وتلاقي تيارات الثقافة والتجارة والدين المتنوعة على شواطئ البحر الأحمر.